من عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه
إطلاق لفظ الناس عليه في القرآن الكريم
قال الله تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54]، قال حبر الأمة عبدُالله بن عباس: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ﴾ [النساء: 54]؛ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقال في موضع آخر: عنى بالناس محمدًا صلى الله عليه وسلم ومَن آمن به.
وعنه أنه قال: نحن[1]، وإلى هذا القول ذهب مجاهد، فقال: وهم أعداء الله اليهود، حسدوا محمدًا صلى الله عليه وسلم[2]، وإليه ذهب الكلبي، فقال: الناس في هذه الآية: النبي صلى الله عليه وسلم[3].
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي مالك في قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 54]، قال: يحسدون محمدًا صلى الله عليه وسلم حين لم يكن منهم، وكفروا به، وقال: واللفظ عامٌّ، ومعناه خاص؛ كقوله: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ﴾ [النساء: 54]؛ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم[4]، وإلى هذا ذهب السُّدي أيضًا؛ قال ابن المنذر: حدثنا موسى، قال: حدثنا إسحاق، قال: أخبرنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، في قوله عز وجل: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ﴾ [النساء: 54]، قال: يحسدون محمدًا صلى الله عليه وسلم[5].
وجمع الإمام الماورديُّ الآراءَ في تفسير هذه الآية، فقال: وفي الناس الذين عناهم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنهم العرب، وهو قول قتادة.
والثاني: أنه محمدٌ صلى الله عليه وسلم خاصة؛ وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وعكرمة.
والثالث: أنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو قول بعض المتأخرين.
وفي الفضل المحسود عليه قولان:
أحدهما: النبوة، حسَدوا العرب على أن كانت فيهم، وهو قول الحسن، وقتادة.
والثاني: أنه إباحته للنبي صلى الله عليه وسلم نكاح مَن شاء من النساء من غير عددٍ، وهو قول ابن عباس، والضحاك، والسدي[6].
وقال القتبي: ﴿ أَمْ ﴾ [النساء: 54] على وجهين:
مرة يراد بها الاستفهام؛ كقوله: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ﴾ [النساء: 54].
ومرة يراد بها "أَوْ"؛ كقوله: ﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ ﴾ [الإسراء: 69]، ويعني: أو أمنتم[7].
قلت: اللفظ عامٌّ، وأريدَ به خاص، وهو النبي صلوات ربي وسلامه عليه؛ والعلة في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع فيه صفات الخير ما يكون في الناس جميعًا؛ من حسن الخُلق، والمظهر، والصوت، وصفات الكمال الخِلقية والخُلقية، فأصبح محلًّا لحسد المغرضين المتمنين زوالَها عنه، فعبَّر عنه بالناس.
وعبَّر عنه بالناس وليس بالمؤمنين؛ وذلك لوجود صفات الخير والكمال في عموم الناس، وليس فقط في المؤمنين، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فالناس أعمُّ من المؤمنين، فكل مؤمن هو من الناس، وليس العكس.
ويلاحظ أن الناس ورد بلفظِ الجمع لا المفرد؛ لأنه يستحيل أن تجتمع خصالُ الخير والكمال في شخص واحد، فهي متفرِّقة بين الناس إلا في شخص واحد، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفرع على ذلك أن مَن حسَده صلى الله عليه وسلم فكأنه حسد الخصال الحميدة في الناس أجمعين، والله أعلم بالصواب، وفي هذا علوٌّ لمكانته عند ربه وخالقه صلوات ربي وسلامه عليه.
وإلى هذا أشار الواحدي، فقال: حسَدتِ اليهودُ محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من النبوة، فقال الله تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ﴾ [النساء: 54]، على معنى: بل أيحسدون الناس؛ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ وإنما جاز أن يقع عليه لفظُ الناس وهو واحد؛ لأنه اجتمع عنده مِن خلال الخير ما يكون في جماعة، ومثلُه قولُه: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: 120][8].
وأكد الإمام البقاعي هذا المعنى، فقال: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ﴾ [النساء: 54]؛ أي: محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي جمع فضائل الناس كلهم من الأولين والآخرين، وزاد عليهم ما شاء الله[9].
اللهم اجعلنا من أمته المتشرفين بالانتساب إليه، ومن المتبعين له، الطائعين المستجيبين لأوامره، ومن المنتهين عن نواهيه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين