أحس بوهنٍ شديد و خَوَرٍ أشدّ ، و رأى أن جيوش المشيخِ قد غزت أركان وجهه و جسده ، فبادر مرآتَه مستفسرا ، فقالت أتريد أن ترَ الظاهر أو الباطن ، فقال أشيري عليّ ،فقالت : عليك برؤية الباطن ، فإنني لم أر بناء بني على ظاهرٍ من الأرض ، مالم يُنقّب له عن باطنها،فقال : صدقتِ ، و بالحق أشرتِ
فقرّب منه مرآتَه ، و صوّب فيها نظراتِه ، فبدا له منها ما لم يكن يحتسب ، و رأى أن قد أدركه ما كان يجتنب ، و أذهله ذاك عن أن ينتحب .
فسآءلها مستغربا : ما هكذا كانت سحنتي بالأمسِ ؟! ، فما لها كأنّما انتُشلت من رمسِ ؟! ، أم أنّه من فعلتِ الحرِّ و الشّمسِ ؟! أصدُقيني ، فقد حزّ هذا في الخاطر و النّفس .
فقالت : ما تراه اليوم هو حقيقتك من غير سترٍ و لا حجاب ، و ما عوّدتَ نفسك أن تراه ، فهو انعكاس لصورة الطينة و التّراب .
هذا أنت يا صاحبي عارٍ عن كلِّ تصنُّعٍ و زينة ، هذا أنت يا صاحبي عارٍ عن البرقع و اللثام ، هذا أنت يا صاحبي كما يراك أولوا النهى و الأبصار ، و هذا ما لم تره عن نفسك و اللئام و الأشرار ، خفافيش العيون و الأبصار .
لسانٌ أسود ، و رأسٌ أجرد ، و ذقنٌ أمرد ، جلدٌ مُرقّط ، و جبين مُخطّط ، و وجهٌ مُنقّط
أعينٌ حمراء ، و وجنةٌ صفراء ، كأنّني من سلالة الشّياطين ، أو أُصبتُ بلعنةِ السّلاطين ، أو غُمستُ في ردغةٍ من طين .
فقالت : ذاك قولك الفُحش و الزُّور ، و سماعك اللهو و الفجور ، و أكلك السُّحت و الخمور ، و دعواك الويل و الثّبور ، افتقدتك المساجد ، و ألِفَتْكَ النوادي و المعاهد ، صاحب غيبة ونميمة ، باذل لكل سجيّة ذميمة ، ملتحفٌ بالزّهو و التَّيَهان ، متدرِّع بالكبر و العصيان .
فعميت عيناك ، و صُمَّت أذُناك ، و أصابك البكم ، و أدركك الشلل ، عن كل صنيعة للخير ، و مَرضاة للرّبّ ﷻ ، و اهتداء بالرّسول ﷺ .
قال : أنبئيني ما العمل ؟ فلستُ أرضى أن أكون مع الرِّعاع و الهَمَل .
قالت : هذا أول الصّواب ، فاعقِلَنْ عني فحوى الخطاب ،
اغتسل بماء الدّموع ، و اجتنب تلك الجموع ، و دِن لربِّك بالذُّلّ و الخضوع .
عوِّد نفسك البذل ، و زُمَّها عن الهزل ،
فلتكحل عيناك بالنظر إلى كتاب الله ، و رطب لسانك بذكر مولاك ، و شنِّف أسماعك بحديث رسول الله ﷺ ، عفِّر جبينك و مرِّغ أنفك في التراب ، تذلُّلا و خضوعا لربِّ الأرباب . حُثّ الخُطى إلى المساجد ، اندم و ابكِ خطاياك و عاهد ربك الإقلاع عنها ، و اعزم بفؤادك عدم العَودِ إليها .
باب التوبة مفتوح ، و الوُلوج لقارعه مسموح ، و العفو من ربّه ممنوح .
و اعلم أن الله تعالى لا يقبلُ عملا إلا بشرطين اثنين ، و هما : إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له . و هو ما تدلّ عليه شهادة أن لا إله إلا الله و تدعو إليه
و الثاني : تجريد المتابعة لرسول الله ﷺ و هو ما تدل شهادة أنّ محمد رسول الله ﷺ .
قال ﷻ : ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف (110)]
يا صاحبي أنت اليوم فوق الأرض ، و بعد حين تحتها ، و كما دخلتَ المقابر حاملاً ، ستدخُلها يوما محمولاً ، فأعدّ لما علمت .
فإن الموت لا بدّ يدركك ، و لا بدّ من زَوْرةٍ يزورُكَها ملك الموتِ عيه السّلام .
فمن كان اليوم غافلاً ، فسينتبه هنالك ، و لكن ولاتَ حين مناص .
قال أبو إسحاق الإلبيري
تفــت فــــــؤادك الأيام فـتا * * * وتنحت جسمك الساعات نحتا
وتدعوك المنـون دعاء صـدق * * * ألا يا صــــاح أنت أريـــد أنتا
تنام الدهر ويحك في غطـيط * * * بها حتى إذا مــت انتـبهتا
إبك على خطيئتك ، و أغتسل بماء الدّموع ، و اعقد العزم على عدم الرّجوع
إلى تلك القطعان و الجموع ، المستكبرة عن الذُّلّ لربها و الخضوع .
حديث مسرفٍ على نفسه ، مع مرآةٍ ناصحة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : " الْمُؤْمِنُ مَرْآةُ أَخِيهِ ، إِذَا رَأَى فِيهَا عَيْبًا أَصْلَحَهُ " [الأدب المفرد للبخاري . بَابُ : الْمُسْلِمُ مَرْآةُ أَخِيهِ (231) ]