[rtl] هذا هو السؤال الكبير الذي يجب التوقّف عنده، عند دراسة الدواعي والمحرِّضات الستراتيجية للحرب الأطلسية الأميركية على ليبيا، بذريعة حماية الثوريين المدنيين. فكفى تهريجاً أيّها المناضلون وكفى تبرّجاً أيّها الأناضوليون.[/rtl]
[rtl]وكتوطئة مبكِّرة للإجابة على ذاك السؤال نقول إنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ نجاح القذّافي في إطلاق «الإتحاد الافريقي» من مدينة سرت قد شكّل تعويضاً معنوياً واعتبارياً كبيراً للرجل المحاصر بالمرارة التي تجرّعها من سواد النظام الرسمي العربي الأعظم؛ إنّه التعويض الذي أراد القذّافي من خلاله القول إنّ الأزمة والمشكلة لا تكمن في استحالة تحرير فلسطين، ولا في امتلاك العرب لمقوّمات إنشاء دولة الوحدة العربية، ولا في عجز منظمة الصمود والتصدي لأيّ خطر يتهدّدها، وإنّما تكمن في عدم وجود إرادات صادقة لدى النظام العربي الذي ليس هو إلّا مرآة تعكس مصالح الدول الأجنبية الكبرى.[/rtl]
[rtl]كانت إندفاعة القذّافي وحماسته في ملفّ الإتحاد الإفريقي وتشكيل الحكومة الإتحادية الإفريقية، توازيان اندفاعته وحماسته في السنوات الأولى التي تلت انطلاقة ثورة الفاتح من سبتمبر. فلقد كان مهتمّاً لأبعد الحدود في بذل الجهود المتواصلة لتحقيق الأهداف المنشودة في ممتعته إفريقيا.[/rtl]
[rtl]ولأنّه لُدِغ من سياسة حرق المراحل فقد أخذ الجرعة الأولى من العبر، لذلك نجد كيف أنّ القذّافي مهّد لمشروع الإتحاد الإفريقي بمشروع إقليمي سُمّي بــــ «تجمع دول الساحل والصحراء الإفريقية»، وهو التجمّع الذي يضمّ الدول المتجاورة فيما بينها والمتصلة عبر الساحل والصحراء. ويعتبر هذا التجمع الذي شكّل قاعدة الهرم في بناء الإتحاد الإفريقي، واحداً من المنظمات الإفريقية دون الاقليمية النشطة التي كان لها بالإضافة لأطر التعاون والتنسيق الأمني فيما بينها، عدد من المشروعات الإقتصادية والإستثمارية الهامة، لعلّ «مصرف الساحل والصحراء» والذي يعنى بتشجيع التنمية الريفية، في طليعتها.[/rtl]
[rtl]بهذه المرحليّة، أشرف القذّافي على مشروع الإتحاد الإفريقي، منطلقاً من تأسيسه منظمة إقليمية أساسية من مكوِّنات القارّة السمراء، التي تكتنز بكمية غير محدّدة من الثروات الطبيعية من مصادر الطاقة على اختلافها، والمياه والكتل البشرية التي ناءت تحت تخلف مزمن سببه سياسة الإستعباد الإستعماري من الغرب الأميركي والأوروبي على السواء.[/rtl]
[rtl]هنا وجد القذّافي نفسه أمام ورشة كبرى من العمل المتواصل لتحقيق مراميه وتطلعات شعوب إفريقيا في التنمية بعد التحرّر من الإستعمار؛ هي الورشة التي «أَفْرَقَتْ» ليبيا بالكامل بدءاً من نشرات الأخبار والبرامج السياسية وصولاً إلى الموسيقى والألحان، حيث أصبح التلفزيون الليبي يبثّ أيضاً نشرات إخبارية يومية بلغات ولهجات إفريقية، وأصبحت الإذاعة الليبية تصدح بالموسيقى الإفريقية، وحتى الأزياء الإفريقية راجت في الأسواق الليبية، والتي يأتي بها التجّار الأفارقة برّاً من تشاد والنيجر ومالي وغيرها.[/rtl]
[rtl]وكما كان للقذّافي أدواته في ترويض لِيبِيِّيهِ، كانت له أدواته أيضاً في ترويض قادة إفريقيا، ولهذه الغاية أسّس الإفريقيُّ الجديدُ «الملتقى العام للمنظمات الأهلية الإفريقية» الذي يحمل مهمة مواكبة انعقاد القمم الإفريقية ليشكّل القذّافي من خلاله عوامل ضغط على الحكومات الإفريقية كي تصادق على مشروع الحكومة الإتحادية الإفريقية.[/rtl]
[rtl]ولجعل كل ملوك الأرض، عرباً وغرباً، تحت هالته، وشى القذّافي بتأسيس «الملتقى العام لملوك وأمراء وسلاطين وشيوخ إفريقيا»؛ وهو الملتقى الذي يضمّ ملوك وسلاطين وأمراء القبائل الإفريقية بأعدادها الملايينية، وكان طبيعياً أنْ يُطوِّب هذا الملتقى، خادم العلَمين الشريدَيْن، العلم الليبي الأخضر والعلم الإفريقي الاسمر، معمّر القذّافي، «ملكاً لملوك إفريقيا» في احتفالية كبرى متناغمة مع كل الطقوس المثيرة لتتويج ملك بتاجه وصولجانه المُذهَّبين.[/rtl]
[rtl]بهذا التقليد، الأشبه بــــ «المغامرة غير المحسوبة»، بدأت أخطاء القذّافي القاتلة بالتراكم وبدأت أسهم وطلقات الإنتقاد المصوّبة إلى صدره تستقرّ في مكانها المستهدف. فلقد نجح المتربِّصون به ثأراً وانتقاماً من العرب والعجم في تركيز عَدَسة الكاميرا على «جنونياته»، في الوقت الذي كان يجب توجيهها على نجاحاته الإفريقية أيضاً. فهناك تمكّن القذّافي من معالجة الكثير من الملفّات الساخنة ومن إطفاء حرائق عدة سواء بين بعض البلدان أو بين بعض القبائل ومنها الصراع السوداني التشادي، وأيضاً الصراع التشادي ـــــ التشادي، وكذلك الصراع بين فصائل دارفور، وأيضاً الصراع بين الفصائل الدارفورية والحكومة السودانية.[/rtl]
[rtl]وهناك أثنى الرئيس السوداني عمر البشير على جهود وإنجازات القذّافي، لكنّها الجهود التي تعرّضت لنوع من «القرصنة» المفاجئة من قبل الذين سيبرمون مع الزعيم السوداني الإخواني حسن الترابي عقد إطاحة بالزعيم الليبي، في لحظات سياسية بدت لوهلاتها الأولى بريئة، لكنّها لحظاتٌ ما كان أحد يدري أنّها في شكلها ومضمونها توطئة وإشارة يجب أنْ تشي بأنّ حياة القذّافي السياسية قد انتهت بدءاً من إفريقيا بشقّها العربي.[/rtl]
[rtl].. من قطر يأتي الجديد هذه المرّة، حيث الأمراء الجدُد يقودون المستحيل كمن يقود سيارة مقودها لزج لزاجة ما بعدها لزاجة، ففي التفاصيل اللاحقة سنحدِّد مكامن اللزاجة ومحلّها ومضامينها، أمّا الآن فنبقى مع القذّافي بعد حراك قطر في المجال الحيوي الإستراتيجي لليبيا وله.[/rtl]
[rtl]بسحرٍ قطريّ ساحر أخذت الأحلام القذافية بالتبخّر الفجائي غير المصحوب بدرجة حرارة فوق المئة. فحتى فكرة الحكومة الإتحادية الإفريقية أضحت في خبر كان.. ففي حين بدا القذّافي كباعث ومؤسّس وملهم للإتحاد الإفريقي نجده في السنوات الأخيرة يقاتل لكي يَشْغَلَ عُكّازُه علي التريكي منصب رئيس مفوضية الإتحاد الإفريقي، لكنّ الأفارقة ما كانوا ليوافقوا على إسناده لهذا المرشح، الأمر الذي دفع القذّافي إلى نوع من الحرد الذي وصل حدّ التهديد بالإنسحاب من إفريقيا وسحب الإستثمارات الليبية منها، والعودة إلى الشطرين الحرام، العربي والإسلامي، وحتى إلى الخيار المتوسّطي الساركوزي.[/rtl]
[rtl]طبعاً، كان القذّافي يوجه كلامه الإستباقي هذا للقادة الأفارقة، عشية انعقاد قمة أديس أبابا عام 2008، لكنّ هؤلاء وبهدف استرضاء الزعيم الليبي اتفقوا على تسمية المرشح السابق كرئيس للجمعية العامة للأمم المتحدة مع ما يوفِّره ذلك للقذّافي من إطلالة واسعة على الأمم المتحدة بأجهزتها التي قرّرت يوماً الإجهاز على زائرها الجديد وخطيبها الناقم.[/rtl]
[rtl]هنا كان على القذّافي أنْ يعدّ العدّة ويستجمع كل مَلَكاته الخطابية ليعيد بريقه المجروح جراء إطلاقات النار المحسوبة بدقة التي تعرّض لها كــــ «ملك ملوك إفريقيا». فماذا فعل؟.[/rtl]
[rtl]كلنا يذكر الصخب والضجيج اللذين أحدثتهما خيمة القذّافي التي أراد نصبها في مقر إقامته في نيويورك؛ لكنّ هذا الصخب أخذ يتلاشى أمام كلمته المطوّلة التي ألقاها من على منبر الجمعية العامة كرئيس فوق العادة لجماهيريته، فهناك ناقض القذافي نفسه.[/rtl]
[rtl]وباستثناء فعلته المتمثّلة في تمزيقه ميثاق الأمم المتحدة الذي كانت مزّقته الولايات المتحدة قبله ومنذ عقود، ومطالبته بإجراء تحقيق يتناول مشروعية الحرب على العراق التي شُنّت بناءاً على أكاذيب، (وهي مطالبة سرقها الروس منه بعد مقتله حينما طالبوا بمثل ما طالب) والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الإحتلال الأميركي الغربي بحق المدنيين العراقيين، وكذلك التحقيق في كيفية إعدام الرئيس صدّام حسين، فإن القذافي في هذا الخطاب لم يقدّم شيئاً جديداً، فأعاد تكرار طروحاته القديمة سيما منها المتعلق بضرورة توسيع مجلس الرعب ليضم أعضاء آخرين، فمن حقّ إفريقيا وأميركا اللاتينية أن يشغلا مقعدين دائمين، فهنا أيضاً ناقض القذافي نفسه.[/rtl]
[rtl]وقفة القذّافي أمام الأمم المتحدة وقبلها وقفاته الأخرى في المحافل الدولية والإقليمية، خصوصاً تلك التي كان يقفها في القمم العربية، كانت ترتدي أهميتها الشكلية دون الجوهرية. وبالطبع هناك الأسباب الجوهرية التي جعلتنا نرى القذّافي يخرج من الخيمة ليقيم في «استراحة» فخمة مصمّمة على الطريقة الغربية. هذه الأسباب سنتعرّف عليها لاحقاً، لكن من الأهمية بمكان هنا أنْ نبيّن أكثر ترف القذّافي، في الشكل دون المضمون.[/rtl]
[rtl]القذّافي.. وقبيل توجهه للمرّة الأولى إلى صرح العالم الأول، الأمم المتحدة، كانت له سلسلة من المواقف في القمم العربية المنعقدة دورياً، لكنّ الإهانة المقرونة بالتهديد بالقتل التي تلقّاها من ولّي عهد السعودية الأمير عبد الله ابن عبد العزيز آل سعود في قمّة شرم الشيخ حفرت في نفس الرجل عميقاً، وبدأ يعدّ العدّة للأخذ بالثأر، فهو من تعوّد على شتم وتقريع المسؤولين العرب والغربيين، كيف له أنْ يقبل بأنْ يحمل هذه الراية غيره، وخصوصاً من يعتبرهم سراً وعلانية سبب إبتلاء الأمة.[/rtl]
[rtl]انتظر القذّافي قمة تونس 2005.. لكنّها أُجلت لموعد آخر من العام نفسه بسبب الخلافات بين الوفود العربية على جدول الأعمال. حضر القذّافي القمة، لكنّ غياب ولّي عهد السعودية عن القمّة كان يرفع منسوب التوتر لدى المُهان بسبب «الدَّيْن» المستحق على الأمير عبد الله، ويرفع من ارتياحه أمام جمهوره من أنّ وليَّ عهد السعودية يغيب عن اجتماعات القمّة لأنّه يخاف مواجهته.[/rtl]
[rtl]انتظر القذّافي قمة الجزائر 2006.. لكنّ الأمير غاب أيضاً. فتسلّى القذّافي بسبحته «إسراطين» كحلّ للمشكلة الفلسطينية. ثم وضعها جانباً ونظر إلى بشّار الأسد ليصوِّب على «محكمة الحريري»، فكيف يُخصّ رفيق الحريري بمحكمة، ولا يخصّص ياسر عرفات ورشيد كرامي وغيرهما من الشهداء بمثلها.[/rtl]
[rtl]طال الإنتظار إذن.. والأيام تتوالى وثأر القذّافي المبيّت من ولي عهد السعودية، لا يمحوه تقادم الزمن عند صديق الزمن. وقد أُعلن عن فشل محاولة لإغتيال الأمير عبد الله في الرياض، اتُهم فيها اثنان بينهم محمد اسماعيل أحد أبرز المقرّبين من القذّافي ونجله سيف الإسلام.[/rtl]
[rtl]حلّت قمّة الدوحة الشهيرة.. حضرها الملك عبدالله. فاجأ القذّافي شاتمه السعودي وأمير قطر والقادة العرب والرأي العام العربي الذي كان يتابع عبر الفضائيات أعمال القمّة الذي توقع ثأر القذّافي، بمداخلة وسط مقاطعة أمير قطر الذي قطع الصوت عن أجهزة اللواقط، ردّ فيها القذّافي على تهديدات الملك بمثلها ووضع في خواتيمها مخرجاً تلقفه الأمير القطري الذي سارع إلى ترتيب اجتماع بين العقيد والملك حضره سعود الفيصل وزير خارجية السعودية والعقيد عبد الله السنوسي رئيس الإستخبارات الليبية، ولتنتهي عند هذا الحدّ المشكلة الشخصية بين الرجلين في الشكل ليبقى المضمون منتظراً ساعة الصفر التي بحلولها يجب دكّ الأسوار مهما كانت الكلفة عالية، لكن ليس بالضرورة سامية.[/rtl]
[rtl]القذّافي يدكّ أسواره[/rtl]
[rtl]
.. هنا ينتهي الشكّ والشكل معاً، ليأتي المضمون بمفعوله المتطرِّف هذه المرّة فيتشابه إلى حدٍ كبير مع شخصية القذّافي المتطرّفة في مواقفها ووقفاتها؛ إنّه الموعد غير المنتظر مع قمّة دمشق. في هذه القمّة ألقى الزعيم الليبي خطاباً قال فيه وسط سخرية وضحك المؤتمرين بأنّ أميركا قد توافق على اغتيال القادة العرب في يوم ما، تماماً كما فعلت مع صدّام حسين الذي شُنق وسط لامبالاة الجامعة العربية والقادة العرب. «لماذا لا يكون هناك تحقيق في مقتل صدّام حسين؟. الدور جاي عليكم كلكم». فبدا القذّافي في كلامه التقريعي وكأنّه خائف من المصير المشابه لمصير صدّام الذي ينتظره هو، لا القادة العرب. فكان مُنْتَظَراً غيرَ مَهْدِي.[/rtl]
[rtl]لكن منذ متى حُدّد المصير الصدّامي الصِدامي؟ ومن حدّد هذا المصير؟ وكيف ساهم القذّافي في رسم لوحة «المصير»؟ وأين كانت البداية؟.[/rtl]
[rtl]إذا كان فكّ أو رفع الحصار عن الجماهيرية والذي تمّ بوساطة مشتركة لعب فيها الرئيس الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا دوراً محورياً إلى جانب الأمير عبد الله بن عبد العزيز ممثّلاً بالأمير بندر بن سلطان سفير المملكة لدى واشنطن، وهو الرفع الذي تمّ على أساس تحمُّل الجماهيرية مسؤوليتها عن تفجير طائرة البانام الأميركية، والذي حصل نتيجة سنوات من التفاوض مع الولايات المتحدة عبر بريطانيا، ثم مباشرة مع الولايات المتحدة، دفعت ليبيا بموجب ذلك تعويضات كبيرة لضحايا لوكربي، فإنّ فكّ ليبيا لعقد ترسانتها وبرامجها في أسلحة الدمار الشامل كانت الخطوة التي أحدثت المفاجأة المدوِّية في مختلف الأروقة الدولية من فيينا حيث مقرّ وكالة الطاقة الذرية، والتي زار رئيسها محمد البرادعي طرابلس لهذه الغاية، إلى أوروبا والولايات المتحدة، التي لم يكن أمامهما سوى كيل المديح للقذّافي على هذه الخطوة غير المسبوقة عالمياً. إنّها الخطوة التي بدت وكأنّها ضمن أجندة التفاوض لإنهاء ملف لوكربي ورفع الحصار، وهي الخطوة التي من شأنّها أنْ فتحت ليبيا على عالم جديد، حيث كثر الكلام المتصاعد من كل مكان عن عودة هذه الدولة المارقة والراعية للإرهاب إلى المجتمع الدولي ومن أوسع أبوابه وأشرعها.[/rtl]
[rtl]وهكذا، دخل المجتمع الدولي ليبيا من باب التنمية والإستثمارات والشركات متعدّدة الجنسيات والعابرة للقارات، فكلها يمّمت وجهها شطر ليبيا لاهثة وراء النفط والمشروعات الإقتصادية الأخرى خصوصاً في مجالات الطرق والمقاولات، طبعاً من دون أنْ ننسى عودة السفارات الأجنبية، والأميركية منها على وجه الخصوص.[/rtl]
[rtl]كانت عملية التفاوض بين الجماهيرية والولايات المتحدة عملية صعبة ومعقدة ومتواصلة، وكان ثمة لجنة ليبية سياسية أمنية (مكوّنة من عبد الرحمن شلقم أمين الخارجية، وموسى كوسى رئيس جهاز الأمن الخارجي، وعبد الله السنوسي رئيس الإستخبارات العسكرية)، عهد إليها القذّافي وتحت إشرافه مهمّة هذا الحوار الصعب والمعقّد حتى وصوله إلى النهايات المعروفة، أولاً لرفع الحصار وثانياً لعودة ليبيا إلى عباءة الجماعة الدولية.[/rtl]
[rtl]إنّها العودة التي كان لا بدّ لها من بطل يستثمر فيها للإطلال على مرحلة جديدة من ليبيا منفتحة على عالم جديد. فكان المهندس سيف الإسلام القذّافي النجل الثاني للزعيم الليبي هو ذاك البطل الذي أفصحت التقارير الغربية الإعلامية والديبلوماسية عن دوره المركزي في الوصول إلى النهايات الحاسمة لهذا الملف الشائك.[/rtl]
[rtl]فإذا كان القذّافي الأب، قد سبّب لليبيا والليبيين كل هذه المتاعب من الحصار والعدوان وخلافه، فإنّ القذّافي الإبن، كان رأسَ جسر العبور من مرحلة الحصار إلى مرحلة الإنفتاح. هكذا تواطأ كل من الإعلام الغربي والليبي وبعض النفاق السياسي على تظهير هذه الصورة الإنقاذية لسيف الإسلام، لكنّها الصورة التي عبّدت له الأرضية المناسبة كي يطل بأفكاره حول الإصلاح والشفافية والتنمية والتطوير على الليبيين، تلك الأفكار التي يلهج بها الليبيون بأصواتهم الهامسة. ولقد كانت وعود سيف الإسلام غزيرة، وبرامجه اكثر من طموحة، وأفكاره جريئة، فهي الأفكار التي يصعب على الليبيين هضمها دفعة واحدة. إذن سيف الإسلام كأبيه، حرق المراحل، فالجرعات كانت كافية لقتله سياسياً. فمن يقف وراءها، ليدسّ السمّ في العسل!.[/rtl]
[rtl]كبُر نشاط سيف الإسلام، وكبُرت أهدافه مع استهدافاته، ثم راح على طريقة الإنتشاء بالجرأة يبالغ بهذه الأهداف، لتطال حتى أعمدة خيمة والده. فأخذ اللسان الليبي يتحدث عن فرز في المجتمع الليبي بين تيار الإصلاحيين بقيادة سيف الإسلام وتيار الحرس القديم المحسوب على والده. إنّه الفرز الذي أدّى إلى كثير من التناقض بين المعسكرين.[/rtl]
[rtl]الشباب الليبي.. هو القوّة البشرية التي اعتمد عليها سيف الإسلام في إقلاع قطار مشروعه، مشحوناً بخزّان كبير من العطايا والتقديمات الماديّة للشباب الذين أخذوا ينتظمون في مؤسّسات سيف الإسلام.[/rtl]
[rtl]أدرك سيف الإسلام إذن أنّه على طرفي نقيض مع جماعة والده، وأنّه لا بد من الإنفتاح على شرائح المجتمع كافة خصوصاً المعارضة منها، وذلك وسط مطالبة غربية ضجّت بها الإشاعات المنطلقة من أجواء الحرس القديم.[/rtl]
[rtl]لكنّ طموح أبو السيوف كبُر ليشمل تدخّله في تشكيلة اللجنة الشعبية العامة (أي الحكومة الليبية) وتسمية بعض الأمناء (الوزراء) فيها وصولاً إلى تسمية رئيسها، إنّه الدكتور شكري غانم. وهكذا أصبح تيّار سيف الإسلام يتوزّع السلطة والخدمات من خلال الوزراء الذين سُمّوا عن تيار ليبيا الغد.[/rtl]
[rtl]وجد سيف الإسلام في ترؤسه لفريق حلّ مشكلة لوكربي وما تبعها من انفتاح ليبيا على الغرب وانفتاح الغرب على ليبيا، أكثر من ضرورة كي يشمل الحوار والإنفتاح هذان «الجماعات المسلّحة الليبية» ليكتمل عقد اللحمة الوطنية الداخلية، فكان أنْ بدأ حواراً مع تلك الجماعات حول العالم وخصوصاً المعتقلين منهم في الداخل، وقد أسفر هذا الحوار مع الجماعة الليبية المقاتلة (أي القاعدة الليبية) عن قيام الجماعات هذه بمراجعات وتقويم ونقد لتجربتها السابقة ومنها رفع السلاح ضد الدولة والخروج على الحاكم، وقد صدرت هذه المراجعات التي تضمّنت تقديم اعتذارات واضحة من العقيد معمّر القذّافي والدولة الليبية وتعهدت بالإندماج في المجتمع وعدم حمل السلاح ضد الدولة مرّة أخرى.[/rtl]
[rtl]وتولّى الشيخ علي الصلّابي ـــــ الذي عاد بدوره إلى ليبيا من الخارج وأصبح له برامج تلفزيونية دينية ـــــ نشر هذه المراجعات بتشجيع من سيف الإسلام القذّافي، في خطوة سبقت الإفراج التدرُّجي عنهم، وأعقبها إجراء مصالحة مع الدولة، وتمّ دفع التعويضات المالية اللازمة لهم عن فترات اعتقالهم، وكذلك تمّ دفع التعويض المالي لذوي ضحايا سجن أبوسليم، في خطوة تقبّلها أهالي سجن أبوسليم وتهدف إلى طيّ صفحة الماضي الأليم على الجميع.[/rtl]
[rtl]وقد سبق الحوار مع الإسلاميين ومراجعاتهم والإفراج عنهم والتعويض عليهم، تصدّي سيف الإسلام لملفّ متّصل منفصل بملف الإسلاميين، وهو ملف حقوق أصحاب الممتلكات التي تمّت مصادرتها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وهو ملفّ حسّاس ولّد نقمة على حكم القذّافي طوال أكثر من ثلاثة عقود، وتمّ لهذا الغرض تشكيل لجنة إعادة الممتلكات وأيضاً التعويض على أصحابها.[/rtl]
[rtl]في الحقيقة، بدت المعالجات التي أدّاها سيف الإسلام، أشبه بالعَصَا السحرية، فهي مواضيع وملفات كان الكلام فيها وحولها يعتبر من المحرّمات والخطوط الحمراء. لكنّها الملفّات التي عكست ارتياحاً بالغاً في الشارع الليبي الذي أخذ يقتنع أنّه أمام مرحلة جديدة بالفعل، وأنّ ليبيا جديدة ستولد من جديد.[/rtl]
[rtl]وما عزّز من هذه الإنطباعات في الشارع الليبي، هو إقدام سيف الإسلام على استجلاب واستحضار معظم رموز المعارضة الليبية، وخصوصاً الإخوان المسلمين من الخارج أو أولئك القابعين في منازلهم، ومنهم من يمتلك كفاءات علمية وتخصّصات تحتاجها ليبيا سيف الإسلام، أكثر من أيّ وقت مضى.[/rtl]
[rtl]اتّضحت الصورة.. فالإدارة الليبية الجديدة أضحت، وبفعل سيف الإسلام وحمايته المباشرة، تضجّ بالدماء الجديدة، السائلة سابقاً عكس جدول نظام والده، فكان أنْ عهد بالمجلس الوطني للتطوير الإقتصادي للدكتور محمود جبريل، الذي عاد وسمّاه وزيراً في الحكومة، كأمين لمجلس التخطيط الوطني، كما أصبح علي الصلّابي أشبه بالمفتي العام للديار الليبية، ثم قيامه بإسناد إدارة شركة الغد والتي تمتلك قنوات تلفزيونية وصحفاً ومجلاتٍ ومواقعَ إلكترونية والتي شكّلت عدّة شغل سيف الإسلام في مشروعه «ليبيا الغد» للإعلامي الاخواني سليمان دوغة.[/rtl]
[rtl]لقد عمل سيف الإسلام بكل ثقله على تثبيت الدماء الجديدة؛ دماء المعارضين الإسلاميين والليبراليين وغيرهم، في شرايين الإدارة الليبية، على حساب من يُسمّون بالحرس القديم من أجهزة النظام التقليدية وحركة اللجان الثورية التي أقُصي العديد من رموزها من مواقع حسّاسة وهامة لصالح المعارضة.[/rtl]
[rtl]وسط اندفاعة سيف الإسلام الحارقة للمراحل، وللأخضر واليابس، لطيّ ما يمكن تسميته بالمرحلة المؤلمة، بدا المثل الذي يقول: «أتى بالدبّ إلى كرمه» ينطبق عليه بصورة كبيرة، فهو لم يُجْرِ مصالحة مع المعارضة فحسب، ولم يخرجْها من السجون الداخلية والخارجية فحسب، بل إنّه أمدّها بتعويضات مالية هامة، كما وفّر لها العمل، فاستفادت من وضعها الجديد ومن الإمكانات التي وفّرها سيف الإسلام، للإعداد لمشروعها هي، وليس لمشروعه هو.[/rtl]
[rtl]القذّافي ولعبة النار[/rtl]
[rtl]
إنّ كل ما تقدّم في سياق الحديث عن مسيرة سيف الإسلام القذّافي وانطلاقته التي جاءت في سرعة البرق لا بد أنْ يستوقفها سؤال جِدُّ مهم يُلحّ في طرح نفسه وهو:[/rtl]
[rtl]هل كان مشروع سيف الإسلام هو فعلاً مشروع سيف الإسلام أم مشروع العقيد عبر سيف الإسلام، وتالياً؛ ما هي المرامي التي كان يستهدفها الزعيم الليبي من وراء مشروع سيف الإسلام؟.[/rtl]
[rtl]من المفيد إعادة التأكيد على أنّ المهندس سيف الإسلام القذّافي استولد مشروعه السياسي من رحم قضية لوكربي لرفع الحصار عن دولة أبيه، مع كل الإرتدادات الإيجابية التي انعكست على الشارع الليبي. ومن المهم التأكيد بأنّ خطاب سيف الإسلام لم يكن البتّة؛ لا نسخة عن خطاب أبيه ولا حتى مشابهاً له.[/rtl]
[rtl]لقد كان خطاب سيف الإسلام ليبياً بامتياز، وكان كلامه عن ليبيا والليبيين ورفاهيتهم وسعادتهم ونهضتهم وانتشالهم وإنقاذهم ونجدتهم وحقهم المشروع في العيش الكريم مقروناً ببعض الأعمال والإنجازات والعطاءات، قد وفّر له سمعةً حسنةً بين الليبيين. وهو، ومن خلال فريق العمل الذي «أُحيط» به، تمكّن من الإحاطة بمعظم الشردات السلبية التي اتّسم بها حكم والده العقيد، فقدّم نفسه كإنسان علمي يعتمد نوعاً من المنهجية والدراسات والتخطيط بعيداً عن الإرتجال في البرامج وتنفيذها. وبذلك كان سيف الإسلام ضمن هذا السياق بمثابة الصوت الأعلى في موضوع حرية الإعلام والصحافة وتحريرها من سلطة الرقيب الرسمي، حيث دخلت، وبمساعٍ منه، مطبوعات عربية وأجنبية إلى ليبيا لم تكن تعرفها أكشاك ومكتبات الجماهيرية منذ عشرات السنين. وبذلك ايضاً؛ كان منطقياً أنْ يوجِّه سيف الاسلام نقداً قاسياً ولاذعاً للإعلام الرسمي بسبب قصوره عن مواكبة العصر والتحديات، فخاض تجربة تأسيس «قناة الليبية» فضلاً عن صحيفتي «قورينا» و«أويا»، وأنشأ مختلف المواقع الإلكترونية، وتحوّلت «مؤسّسة القذّافي العالمية للجمعيات الخيرية» التي يترأسّها إلى نوع من الإدارة الرديفة للدولة الليبية في بعض الملفّات والقضايا، مثل قضية أطفال بنغازي المصابين بالإيدز. وطوّر قطاع الشباب، فتحوّلت «المنظمة الوطنية للشباب الليبي» التي يترأسّها أيضاً إلى إطار فاعل في المجتمع الليبي، كما تواصل مع الإعلام العالمي ونظّم لمختلف الشبكات الأجنبية زيارات إلى ليبيا بهدف الإطلاع على التطور الحاصل في مرحلة ما بعد رفع الحصار عنها.[/rtl]
[rtl]وبهذه الطريقة، أصبح سيف الإسلام ومشروعُه يتقدّمان بخطوات حثيثة داخل الأرض الليبية، لكنّه المشروع الذي أحدث تناقضاً بين سيف الإسلام ومشروعه الإصلاحي من جهة وبين الحرس القديم وثورييه المتمسّكين بسلطة الشعب وبمصالحهم أيضاً، من جهة أخرى.[/rtl]
[rtl]وإذا ما سلّمنا جدلاً أنّه كان هناك «مثابة» اتفاق بين الأب والإبن على التوريث، لكن يبدو أنّ هذا الاتفاق لم يضع الآلية المناسبة لتأمين عملية الانتقال المطلوبة، ففيما يعتبر معمّر القذّافي بأنّ مكانته لدى الليبيين قد تسمح له بتسويق نجله سيف الإسلام، فإنّ هذا الأخير أعلن مراراً رفضه التوريث، لا بل إنّه قرّر الإعتكاف عن الشأن السياسي ذات يوم، لكنه الإعتكاف الذي أراده سيف الإسلام ان يكون تكتيكاً أو وسيلة ضغط عبّرت عنه بعض المظاهرات الشبابية حول ليبيا للمطالبة به. وانه الإعتكاف الذي له أسبابه وحيثياته المباشرة والجوهرية والتي سنتعرّض لها في الأسطر اللّاحقة.[/rtl]
[rtl]وعلى أيّة حال، فإذا كان سيف الإسلام يرفض التوريث ويدعم رفضه بالإعتكاف، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا كان يفعل سيف الإسلام كل تلك السنوات وإلى ماذا كان يرنو ويتطلع؟.[/rtl]
[rtl]ممّا لا شكّ فيه أنّ سيف الإسلام، شأنه شأن أيّ إنسان طامح على وجه المعمورة، يريد السلطة، لكنّه لا يريد لتخريجتها أنْ تكون على طريقة والده، فهو يريد أنْ يختاره الليبيون وينتخبوه بقناعتهم وبملء إرادتهم، بمعنى آخر هو يريد أنْ يأتي كسيف الإسلام، بجدارته، وليس بمونة أو بتزكية أبيه له بين الليبيين. غير أنّ استحقاق الإنتخاب غير معمول به في ظل نظام سلطة الشعب، وهو نظام بلا رئيس. لكنّنا كنّا قد سمعنا وعلمنا أنّ ثمة تعديلات جوهرية على قوانين كانت مطروحة على مؤتمر الشعب العام بعدما أُشبعت درساً من رجال القانون، وحصل نوع من التفاهم الواسع على تغيير في الأنظمة يقرِّر شكل الحكم الذي يريده الليبيون؛ وهو التعديل الذي لم يبصر النور. لكن لماذا لم يبصر النور؟ هل لأنّ النور في مكان آخر، أم ماذا؟ سنرى.[/rtl]
[rtl]هناك من قال بأنّ المسألة مرتبطة بعثرات وصعاب. فــــ «إذا كان سيف الإسلام إبنك البيولوجي، فأنا إبنك الإيديولوجي»، إنّها العبارة أو المقولة التي قيلت للزعيم الليبي والتي تحولت شعاراً بين ثوريي الحرس القديم، وهي العبارة التي ساهمت في رفع مستوى التحدّي والنقاش بين الإصلاحيين والثوريين، وهو النقاش الذي فُهم عبره متأخراً، بأنّ سيف الإسلام كان بــــ «مثابة» الممرّ الإجباري لليبيا في هذه المرحلة الإنتقالية، وكان هو بأفكاره، الأفضل لمحاكاة الغرب ومغازلته وطمأنته، وإنّه لا يمكن للدولة الليبية وقائدها أنْ يسيروا باتجاه ترفضه الجماهير الشعبية أهمّه التخلي عن نظام الجماهيرية وسلطة الشعب.. أيّة سلطة وأيّ شعب!.[/rtl]
[rtl]طبعاً هذه القراءة ـــــ الواقع، المبسّطة والجديرة في آن معاً، تضعنا أمام البحث عن حقيقتين: الأولى عن حقيقة مشروع سيف الإسلام الذي انتهى بعد مخاض من الحراك إلى أنْ يكون أشبه بالمناورة، والثانية عن حقيقة ما يريده معمّر القذّافي حقيقة وواقعاً وأرضاً.[/rtl]
[rtl]أمّا ما أراده معمّر القذّافي من حقيقة مشروع سيف الإسلام بطروحاته الجديدة وآرائه الجريئة، فهو الكشف عن حجم الإستقطاب والتأييد الذي تلاقيه وتحصده هذه الأطروحات والآراء، وبالتالي الكشف عن القوى الجديدة التي قد تنغرس في إطار هذا المشروع وحقيقة استهدافاتها وأهدافها. وقد لخّص أحد المقرّبين من الخيمة مشروع سيف الإسلام بعبارة تعكس إلى حد كبير رأي الزعيم الليبي: «إنّ مشروع سيف الإسلام هو عبارة عن إسفنجة تستوعب كافة التناقضات وتمتّص كافة النقمات وتحتضن كافة الظواهر، وإنّ ثمّة فرزاً تجريه القيادة وتراقبه عن قرب وخصوصاً تلك العناصر التي كانت مصنّفة ضمن دائرة العداء للدولة».[/rtl]
[rtl]والحقيقة أنّ هناك أكثر من سبب جوهري كان يدفع بالزعيم الليبي إلى كشف المستور، كشف حقيقة مواقف الناس من شخص العقيد، فهل هي تؤيّده حبّاً أم كرهاً، قناعة أم نفاقاً، وكشف حقيقة موقف الناس من نظام الجماهيرية حيث يقول الناس بأنّه لا بديل عن سلطة الشعب.[/rtl]
[rtl]كان العقيد القذّافي وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من ثورة الفاتح، ومن كل التحوّلات التي عصفت ببلاده، مهتمّاً بمعرفة حقيقة الناس وكنههم وخباياهم، فهل السكوت كان علامة الرضى أم علامة الخوف؛ وهل ما زال الليبيون كما عرفهم منذ سبعينات القرن الماضي؟[/rtl]
[rtl]كانت أسئلة القذّافي في محلّها. وأمام كل مفصل سياسي دولي خصوصاً في ظلّ تهديد خارجي، كان القذّافي يرى الشعب الليبي ملتحماً بثورته وملتفّاً حوله.[/rtl]
[rtl]لقد ذهبت شكوك القذّافي إلى حدّها الأقصى، أمّا هو فذهب إلى الرقص على حدّ سيف. لقد تحوّلت أسئلته وشكوكه إلى مصدر قلق شخصي له، فجمع كل الهواجس المقلقة والمخاطر المحتملة والمحاذير المرتقبة وما لا يخطر ببال بشر من سموم واقعية أو محتملة أو مفترضة، جمعها كلها ونسّقها ورتّبها، وفي توقيت جدّ مفصلي وحسّاس تحوّلت إلى ما يشبه العمود الفقري لمشروع نجله الثاني سيف الإسلام، الذي تقدّم بها إلى الملأ.[/rtl]
[rtl]وهنا حصل الفرز، فصعب على الناس أنّ تجمع بين نقيضين، فكيف تجمع الناس بين الدستور في مشروع سيف الإسلام واللادستور في جماهيرية العقيد؛ وكيف تجمع الناس، بين الرئيس في مشروع سيف الإسلام، وبين نظام الجماهيرية الــــ «بلا» رئيس؛ وكيف تجمع الناس بين حرية الصحافة والتعبير والإعلام في مشروع سيف الإسلام، والصحافة الموّحدة والإعلام الموجّه في النظام الجماهيري؛ وكيف تجمع الناس بين انتخاب مجلس نيابي في مشروع سيف الإسلام وبين التمثيل تدجيل في سلطة الشعب؛ وكيف تجمع الناس بين تعدّد الأحزاب في مشروع سيف الإسلام وبين «من تحزّب خان» في الكتاب الأخضر؛ وكيف تجمع الناس بين النقيض والنقيض، فسيف الإسلام ووالده نقيضان لا يجمع بينهما إلّا الأبوة والبنوّة، فقط وفقط لا غير. وهذا غيضٌ من فيض صور التمايز لا بل التناقض الصارخ بين مشروع سيف الإسلام ووالده، بل لا يوجد أي شبه بين الإثنين على الإطلاق. لكنّ الأحداث دلّت وأكدت بأنّ سيف الإسلام إبن أبيه، ثمّ!.[/rtl]
[rtl]ثم، بعد ذلك تنطلق الأسئلة الصعبة؛ هل أنّ شخصاً مثل معمّر القذّافي أفنى عمره في النضال من أجل تثبيت فلسفة جديدة في الحكم، وظلّ لآخر لحظة يؤكّد على التمسّك بها بوصفها حلّا لمشاكل البشرية، أنْ يُقدم على هذا الإنتحار السياسي القاتل ويشطب بجرّة قلم واحدة كل ذلك التاريخ الطويل والمضني من المقارعات والمحاججات الفكرية والحوارات المباشرة أو المتلفزة مع المفكرين والسّاسة وأهل الصحافة حتى ينتهي به المطاف ليتراجع عن كل ما بناه من أجل أنْ لا يُورِّث ابنه إلّا حكماً يقوم في الأساس على أنقاض حصون الجماهيرية ومرتكزاتها المختلفة؟.[/rtl]
[rtl]وهل أنّ شخصاً مثل معمّر القذّافي، المهجوس بالتاريخ والمسكون فيه لأبعد مدى، يقبل في قرارة نفسه أنْ يُسجّل عليه أنّه حوّل الشعب الليبي إلى مختبر لنزواته الفكرية وهلوساته في ممارسة سلطة يدّعي أّنّه لا يمارسها؟.[/rtl]
[rtl]باختصار أكثر من عنيف، تدلّ الوقائع المعروضة على أنّ القذّافي ومن خلال مشروع سيف الإسلام قد وضع السمّ في العسل، والحقّ يُقال أنّ كميّة السمّ كانت مركّزة ومكثّفة إلى درجة اختفاء العسل، ولدرجة اصبح القِدْرُ ممتلئاً بالسمّ فقط، وهو السمّ الذي أكله طابخوه، رحم الله أبو عمار.[/rtl]
[rtl]فهل إنّ ما يحتاجه القائد هو صناعة الكلمة التي تدينه ومن صلبه، أم أنّ لدى العقيد مشروعاً حقيقياً آخر، وما هو هذا المشروع ومن هو بطله؟.[/rtl]
[rtl]سيف الإسلام في صلب المناورة[/rtl]
[rtl]
بات جلياً وواضحاً بأنّ سيف الإسلام القذّافي هو الممر ـــــ المناورة الإجباري، وليس المشروع الجدّي الستراتيجي الحقيقي الذي يريده الزعيم الليبي.[/rtl]
[rtl]ففيما كان سيف الإسلام بمثابة قطب الرحى في الحراك السياسي الداخلي المتابَع بالميكروسكوبات الديبلوماسية والأمنية والإعلامية الدقيقة من قبل شركاء ليبيا الجدد الدوليين، كان ثمّة قطبُ رحىً آخر ينمو ببطء وهدوء ودونما ضجيج ولا إعلام، ويتدرّج في سلّم الدولة الليبية.. ولا يظُنَّنَّ أحد أنّنا نقصد غير ذلك الرجل الذي أسماه أبوه «المعتصم بالله معمّر القذّافي»، فمن هو هذا الرجل وما هي السمات والصفات التي ارتداها كي تبوئه موقع القطبية الواقع على يمين العقيد في خيمة السيطرة والتحكّم؟.[/rtl]
[rtl]يعرف الجميع أنّ المعتصم القذّافي هو الإبن الرابع للزعيم الليبي، لكن ربما لا يعرف الجميع أنّ المعتصم القذّافي هو رجل عسكري، وأنا بحكم خلفيتي العسكرية السابقة أسمح لنفسي ومن خلال معايشتي للحرب على ليبيا، القول أنّ المعتصم بالله القذّافي ومن خلال معارك مدينة البريقة كان قائداً عسكرياً من طراز رفيع، إذ تمكّن من قيادة الجبهة في هذه المدينة طيلة ثمانية أشهر من دون أنْ تتمكّن أساطيل الناتو البحريّة والجوية ومعها «قوات» الشرق من هزّ تحصيناتها أو التمكّن من اختراقها، وقد أثبتت قوات المعتصم في جبهة البريقة قدرة هائلة على المناورة والتكتيك، وزرع الأهداف التمويهية، إذْ أنّه من الصعب جداً القتال في جغرافيا صحراوية مفتوحة بدون غطاء جوي أو تضاريس وموانع طبيعية تمكّن القوات من الإختباء من القصف الجوي المركَّز، وبقيت البريقة صامدة وشاهدة على عجز الناتو وقواته طيلة ثمانية أشهر، ولم تسقط في الحرب؛ فالذي حصل هو أنّ القوات الليبية انسحبت منها إلى مدينتي سرت وسَبْها بعد سقوط طرابلس.[/rtl]
[rtl]وإذا كان ما تقدَّم يعكس بعض الملامح المعروفة عن شخصية المتعصم إلّا أنّ الغالبية لا تعرف الملامح والسمات المخفية التي جعلت من هذا الرجل قائداً ميدانياً كان يُعد بإتقان لقيادة البلاد، فما هي أبرز محطّات وملامح المعتصم بالله هذا؟.[/rtl]
[rtl]إنّه العقيد المعتصم بالله القذّافي الصاخب في حياته العسكرية، والذي وُضعت بإمرته قطعة عسكرية لطالما حرص على تسليحها الجيد، ولطالما اشتُهِر بشغفه برمايات الدبابات، وبلغ الأمر حد تلمّس الخطر من حماسة الشباب لديه، فأرسله والده إلى مصر ليتابع تدريبه وسط رعاية رئاسية مصرية خاصة، ثم فجأة ووسط صخب الحراك الذي أحدثه سيف الإسلام، استُحضر العقيد المعتصم إلى ليبيا ليرقّى إلى رتبة عميد، وليُسند إليه منصب «مستشار مجلس الأمن الوطني»؛ وهو المجلس الذي أُنشىء في القرار نفسه الذي عُيِّن فيه المعتصم مستشاراً له؛ إنّه المجلس الذي يضم في هيكليته التنظيمية إلى أمين اللجنة الشعبية العامة (أي رئيس الحكومة) والأمانات السيادية من داخلية وعدل، قادةَ الأجهزة الأمنية المختلفة.[/rtl]